فصل: الفصل الثاني عشر: علم المحكم والمتشابه:

مساءً 2 :59
/ﻪـ 
1446
جمادى الاخرة
28
الأحد
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل إلى علوم القرآن الكريم



.الفصل الثاني عشر: علم المحكم والمتشابه:

انطلقت بعض المصطلحات القرآنية من القرآن نفسه، وأخذت هذه المصطلحات معاني محددة، لا تخرج في إطارها العام عن المعنى المستفاد من القرآن، وإذا تعددت المفاهيم والاجتهادات في مجال تفسير هذه المصطلحات فإن هذه المفاهيم تظل حبيسة الدلالات القرآنية، لا تتجاوزها بمعنى يناقض تلك الدلالة في إطارها العام..
وكلمة المحكم والمتشابه من هذه المصطلحات القرآنية التي جاء بها القرآن في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ} [آل عمران: 7].
وكلمة: (الإحكام) في اللغة تفيد معاني عديدة، أهمها: (المنع) (والإتقان) يقال: أحكمت الأمر أي: أتقنته ومنعته من الفساد، وكلمة (الإحكام) تفيد معنى السداد، والحكمة في القرآن تأتي بمعنى العلم والعدل والنبوة.
وكلمة (المتشابه) مأخوذة من التشابه والمشاركة والمماثلة، وتفيد معنى التشابه المؤدي إلى الالتباس وعدم الوضوح...
والتقابل في كلمتي المحكم والمتشابه، تفيد المعنى المراد، فما كان محكما فهو المبين والمفصل، ولا يمكن أن يعطي معنى الإتقان، لأن القرآن كله متقن، فالمتشابه هو الذي لا يتضح معناه إلا ببيان إضافي، والقرآن بعضه واضح الدلالة على معناه، والبعض الآخر ليس واضح الدلالة، وما كان كذلك فيحتاج إلى بيان.

.آراء العلماء في معنى المتشابه:

اختلف العلماء في تحديد معنى المحكم والمتشابه، ولابد من وقوع الخلاف فيه، فالبعض اعتبر أن المحكم هو الواضح الدلالة، ولا يحتاج إلى بيان، والمتشابه هو الخفي الدلالة، ويحتاج إلى بيان، والبعض الآخر اعتبر (المحكم) ما يمكن معرفة معناه ودلالاته بالتفسير والتأويل، والمتشابه اختص الله به فلا تعلم دلالته ولا معناه، لا بالتفسير ولا بالتأويل.
قال السيوطي في الإتقان: وقد اختلف في تعيين (المحكم والمتشابه) على أقوال:
- فقيل: المحكم ما عرف المراد منه، إما بالظهور وإما بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كقيام الساعة وخروج الدجال والحروف المقطعة في أوائل السور.
- وقيل: المحكم ما وضح معناه والمتشابه نقيضه.
- وقيل: المحكم ما لا يتحمل من التأويل إلا وجها واحدا، والمتشابه ما احتمل أوجها.
- وقيل: المحكم ما كان معقول المعنى، والمتشابه بخلافه، كإعداد الصلوات واختصاص الصيام برمضان دون شعبان، قاله الماوردي.
- وقيل: المحكم ما استقل بنفسه والمتشابه ما لا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره.
- وقيل: المحكم ما تأويله تنزيله، والمتشابه ما لا يدرى إلا بالتأويل.
- وقيل: المحكم ما لم تتكرر ألفاظه ومقابله المتشابه.
- وقيل: المحكم الفرائض والوعد الوعيد، والمتشابه القصص والأمثال.
وجاءت بعض المعاني لكل من المحكم والمتشابه، قال ابن عباس:
المحكمات: ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه... والمتشابهات: منسوخه ومقدمه ومؤخره وأقسامه وأمثاله، وروي عن مجاهد قال: المحكمات ما فيه الحرام والحلال وما سوى ذلك منه متشابه يصدق بعضه بعضا...، وروي عن الضحاك قوله: المحكمات ما لم ينسخ منه، والمتشابهات ما قد نسخ.
وعرف الزركشي في البرهان المحكم بأنه ما أحكمته بالأمر والنهي وبيان الحلال والحرام، والمتشابه ما يشتبه اللفظ فيه في الظاهر مع اختلاف المعاني، ويقال للغامض متشابه، واختلفوا فيه، فقيل: هو المشتبه الذي يشبه بعضه بعضا، وقيل: هو المنسوخ غير المعمول به، وقيل: القصص والأمثال، وقيل: فواتح السور، وقيل: ما لا يدرى إلا بالتأويل وهذه الأقوال بالرغم من تعددها فهي دالة على المراد، ومعبرة، وواضحة، فالمتشابه ما كان غامض الدلالة، محتاجا لتأويل، محتملا عدة أوجه، لا مجال للترجيح بينها بمجرد العقل، ولابد فيها من دليل نقلي...
ونقل صاحب البرهان عن ابن حبيب النيسابوري تعدد الأقوال في هذه المسألة، من حيث كون القرآن محكما ومتشابها أو مشتملا على المحكم والمتشابه، فاعتبر البعض أن القرآن محكم، لقوله تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ والبعض قال: إنه متشابه، والصحيح أنه منه المحكم ومنه المتشابه، كما جاء في القرآن نفسه...
وذهب بعض علماء الكلام إلا أن القرآن يجب أن يكون معلوما وإلا بطلت فائدة الانتفاع به، ونقل الراغب الأصفهاني قولهم هذا، وناقش الزركشي كلام من قال: ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان والهدى، فأجاب بأن الأمر لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: إن كان يمكن علمه فله فائدتان:
الفائدة الأولى: حث العلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن دقائق معانيه، فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب.
الفائدة الثاني: إظهار فضل العالم على الجاهل، ويستدعيه علمه إلى المزيد في الطلب في تحصيله ليحصل له درجة الفضل...
الحالة الثانية: إن كان لا يمكن علمه فله فائدتان:
الفائدة الأولى: إنزاله ابتلاء وامتحانا بالوقف فيه والتعبد بالاشتغال من جهة التلاوة وقضاء فرضها... ويجوز أن يمتحنهم بالإيمان بها حيث ادعوا وجوب رعاية الأصلح...
الفائدة الثانية: إقامة الحجة بها عليهم، وذلك لأن القرآن نزل بلغة العرب فإذا عجزوا عن الوقوف على ما فيها مع بلاغتهم وأفهامهم دلّ ذلك على أن الذي أعجزهم عن الوقوف هو الذي أعجزهم عن تكرر الوقوف عليها.
ولا شك أن هناك حكمة من إيراد الآيات المتشابهات، ولا يمكن أن يكون الأمر من غير غاية، ومن الإعجاز أن تخفى غايات المتشابه، وأن يقع الاختلاف في تحديد مراده، لأن العقول البشرية لا يمكن أن تدرك كنه بعض الحقائق المتعلقة بالله وبالكون، وبالغيب وبالحياة الآخرة، ولابد من بعض الغموض، وهو غموض نسبي، بسبب عجز العقول عن الفهم، ولا يكلف الإنسان بإدراك ما لا يطيق من معرفة الأمور التي لا يدركها العقل.
وليس من حق الإنسان أن يطلب معرفة كل شيء، وهذا أمر فيه استحالة، فالحياة أكثر تعقيدا مما يتصوره العقل، وعلى الإنسان أن يسلم فيما لا يقدر على إدراكه، وأن يؤمن بحكمة الله، وأن ما جاء به هو الحق، والخطاب القرآني موجه لكل الناس وفي جميع الأزمان، ولا يمكن أن يدرك كل مخاطب حكمته وأسراره، وأن يحيط بكل شيء...
وذهب الخطابي إلى أن المتشابه على ضربين:
أحدهما: يعرف معناه إذا رد إلى المحكم واعتبر به.
والآخر: لا سبيل إلى الوقوف على حقيقته، وهذا النوع هو الذي يتبعه أهل الزيغ فيطلبون تأويله ولا يبلغون كنهه، فيرتابون فيه فيفتنون...
وقال ابن الحصار: قسم الله آيات القرآن إلى محكم ومتشابه، وأخبر عن المتشابه أنها أم الكتاب، لأن إليها ترد المتشابهات وهي التي تعتمد في فهم مراد الله من كل ما تعبدهم به من معرفته وتصديق رسله وامتثال أوامره واجتنابه نواهيه.
أنواع المتشابه عند الأصفهاني: قسم الراغب الأصفهاني في كتابه: (مفردات القرآن) الآيات إلى ثلاثة أضرب، محكم على الإطلاق، ومتشابه على الإطلاق، ومحكم من وجه متشابه من وجه، والمتشابه ثلاثة أضرب أيضا:
الضرب الأول: متشابه من جهة اللفظ فقط، وهذا التشابه يرجع إلى الألفاظ المفردة من حيث الغرابة أو الاشتراك، كما يرجع أحيانا إلى جملة الكلام المركب سواء من حيث الاختصار أو البسط أو النظم...
الضرب الثاني: متشابه من جهة المعنى. ويشمل هذا المتشابه ما تعلق بأوصاف الله تعالى وأوصاف القيامة، لأن تلك الأوصاف لا تتصور لنا ولا تحصل في نفوسنا...
الضرب الثالث: متشابه من جهة اللفظ والمعنى معا، وهو أقسام:
الأول: من جهة الكمية كالعموم والخصوص كقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].
الثاني: من جهة الكيفية كالوجوب والندب كقوله تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ} [النساء: 3].
الثالث: من جهة الزمان كالناسخ والمنسوخ، كقوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ} [آل عمران: 102].
الرابع: من جهة المكان والأمور نزلت فيها كقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]. ويشترط لفهم الآية معرفة عادات الجاهلية.
الخامس: من جهة الشروط التي يصح بها الفعل أو يفسد، كشروط الصلاة والنكاح، وأكد الأصفهاني أن كل ما ذكره المفسرون عن المتشابه لا يخرج عن هذه التقاسيم..
وينقسم المتشابه من جهة أخرى إلى ضرب لا سبيل إلى الوقوف عليه كوقت الساعة، وضرب للإنسان سبيل إلى معرفته كالألفاظ الغريبة، وضرب متردد بين الأمرين، ويختص بمعرفته بعض الراسخين في العلم، ويخفى على غيرهم وهو المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل».
وتساءل العلماء هل يمكن أن يكون في القرآن شيء لا تعلم الأمة تأويله، ونقل الزركشي هذا الخلاف بين المفسرين والمتكلمين، فالمفسرون أجازوا أن يكون في القرآن بعض ما لا يعلم تأويله إلا الله، وهذا ما أكده عدد من العلماء في تفسيرهم لمعنى المتشابه، وأن بعض المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، ونقل الراغب الأصفهاني عن المتكلمين أن كل القرآن يجب أن يكون معلوما، وإلا أدى ذلك إلى إبطال الانتفاع.

.آيات الصفات:

وأبرز ما وقع الاختلاف فيه في موضوع الآيات المتشابهة آيات الصفات، في قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى}، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}، {كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ}.
وذهب جمهور أهل السلف وأهل الحديث إلى الإيمان بما جاء في القرآن، وتفويض المعنى إلى الله، وعدم الخوض في تفسير هذه الآيات وتأويلها، وسئل مالك عن قوله تعالى: {الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى}. فقال: (الكيف غير معقول والاستواء غير مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)، وروي عن محمد بن الحسن قوله: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه، ونقل هذا الرأي عن سفيان الثوري ومالك وابن عيينة ووكيع، وقالوا جميعا بضرورة عدم التفسير والتأويل، وذهب بعض أهل السنة إلى جواز تأويل هذه الآيات على ما يليق بجلاله تعالى، وتوسط ابن دقيق العيد، فأجاز التأويل إذا كان قريبا من لسان العرب، فإذا كان التأويل بعيدا توقفنا عنه وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به مع التنزيه.
وموقف أهل السلف أوضح وآمن وأسلم، فإن من الصعب على العقل البشري أن يخوض في تأويل ما ليس به علم، وأنى له علم ذلك والعقل البشري لا يدرك إلا المعاني القريبة منه، مما تدركه الحواس، والتأويل قد يبتدئ يسيرا منضبطا، ثم تتوسع مجالاته، وتنحرف مسالكه، وتضطرب أقواله، ثم يكون مطية لانحراف خطير.
وهنا نقف وقفة يسيرة عند أنواع المتشابه كما أوردها (الراغب) في مفرداته، وليس كل متشابه سواء، فمتشابه الغرابة في الألفاظ والتراكيب ليس كمتشابه المعاني، حيث يقف العقل عاجزا عن الفهم، حائرا مضطربا، لا يدري وجه الصواب، وأنى للمفسر أن يدرك الصواب في أوصاف الله وفيما يدخل ضمن الغيب؟
ويكفي المؤمن أن يقف في مثل هذه المواطن مؤمنا مسلما خاشعا تاركا تفسير ذلك وتأويله لله تعالى، فما توصل إليه أهل التأويل في موضوع الاستواء على العرش من حيث تفسير الاستواء بالاستقرار وبالاستيلاء أو بالصعود أو بالعلو لا يبدو مقنعا، لأن كل معنى لا يخلو من محاذير، وأخطرها التجسيم، والله منزه عن ذلك، والآية واضحة الدلالة معبرة صادقة معجزة، ولا تحتاج بعد ذلك إلى تفسير أو تأويل.
واعتبر العلماء أن حروف التهجي في أوائل السور القرآنية من المتشابه.
أخرج ابن المنذر عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن فواتح السور.
والمتشابه كالمحكم من حيث مكانة النص القرآني، ولا يقدم المحكم على المتشابه ولا يفضله إلا من حيث وضوح الاستدلال بالمحكم لوضوح لفظه ومعناه، ولا مجال للاستدلال بالمتشابه إلا بعد معرفة ما يراد به، ولا شك أن المتشابه بسبب غموضه قد فتح الآفاق لمجالات واسعة من البحث، ودفع العلماء إلى تقصي معانيه المحتملة، وهذا منهج في البحث مفيد...